كيف يوظف المرشد الإيراني خطبة الجمعة لبث رسائله؟
يوم الجمعة 17 يناير (كانون الثاني) 2020 اعتلى المرشد الإيراني علي خامنئي منبر صلاة الجمعة كإمام، للمرة الحادية عشرة منذ توليه منصبه، آخرها كان منذ 8 سنوات.
ونظرًا إلى أن خطب صلاة الجمعة في طهران تلعب دورًا هامًا في الجمهورية الإسلامية، فإن علي خامنئي استخدمها بشكل محدود خلال السنوات الـ31 الماضية خلال توليه لمنصب مرشد الجمهورية، مرسلاً من خلالها رسائل مهمة إلى الرأي العام الداخلي والخارجي، ومن هذه الزوايا خلقت خطب صلاة الجمعة الأخيرة في طهران فرصة لتحليل البيئة السياسية الداخلية، وأيضًا دراسة استراتيجية المرشد والنظام السياسي حول كيفية التعامل مع الظروف الخارجية. وفي هذا الخصوص من الضروري الإشارة للنقاط الثلاث التالية:
1) يمكن اعتبار صلاة الجمعة حدا فاصلا بين مرحلتين في الجمهورية الإسلامية؛ فمن حيث التوقيت، جاءت هذه الخطبة بعد مقتل قاسم سليماني كرمز للسياسات الإقليمية الإيرانية، وهو الحدث الذي يحاول علي خامنئي التأكيد عليه وتضخيم رد إيران الذي سُمي "الانتقام الصعب"، ويمكن تقسيم تاريخ نظام الجمهورية الإسلامية إلى ما قبله وما بعده.
2) تحظى خطب صلاة الجمعة للمرشد الإيراني على أهمية كبيرة في التاريخ الإيراني المعاصر، لأنها بالنسبة لأتباع النظام الإسلامي في الداخل والخارج هي خارطة طريق، وبالنسبة لأعداء ومنافسي النظام تعتبر مؤشرًا على استراتيجيات وسياسات تسعى الجمهورية الإسلامية جاهدة لتطبيقها في المرحلة المقبلة. إضافة إلى ذلك فإن هذه الخطب توضح للباحثين والمراقبين كيف تؤثر الأحداث الكبرى والمهمة على سلوك صناع القرار في الجمهورية الإسلامية.
3) ترتيب الصف الأول من صلاة الجمعة الأخيرة بإمامة علي خامنئي يعكس ملاحظة مهمة حول تموضع الأفراد والائتلافات السياسية في الجمهورية الإسلامية. ودون شك عكس الصف الأول الموقع الهش للرئيس الإيراني قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة في نهاية شهر فبراير (شباط) الحالي، خاصة أن حسن روحاني غادر في حركة غريبة صلاة الجمعة قبل انتهائها.
إضاءة تاريخية
يظهر التاريخ أن علي خامنئي، خلال فترة تولي منصبه كمرشد للجمهورية الإسلامية لم يلقِ خطبة صلاة الجمعة في طهران إلا في حالة وقوع حادث مهم جدًا ومصيري.
على سبيل المثال، أقيمت أول صلاة جمعة بإمامة خامنئي في يوليو (تموز) 1989. أي بعد أربعين يوما فقط من وفاة آية الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية، حيث أقام الصلاة بعد أن تم تعيينه كمرشد للجمهورية الإسلامية. في حين كان الشعب ورجال الدين في إيران يناقشون أهليته لهذا المنصب، لعدم تمتعه بعدة شروط مثل المرجعية أو لقب "آية الله العظمى". هذه الظروف دفعت خامنئي إلى إلقاء الخطبة الأولى من صلاة الجمعة بعد تعيينه كمرشد ليثبت أحقيته لهذا المنصب.
بعد ما يقارب الثماني سنوات من الانتخابات الثانية في صيف عام 1998 أقام خامنئي للمرة الثانية صلاة الجمعة بعد تعيينه، لاستيعاب الصدمة التي سببتها الانتخابات، والتي كانت مخالفة تمامًا لرأيه. وتركت أثرًا نفسيًا مهمًا على القوى الثورية. وأكد في هذه الخطبة على قيم الثورة الإسلامية، وحشد القوى المتشددة والمحافظة، وأعدهم للتعامل مع الظروف المحتملة بعد الانتخابات، وعليه قلل من العواقب غير المتوقعة لنتائج انتخابات مايو (أيار) عام 1997.
لكن قبل أقل من عام، أي بين 8 يناير (كانون الثاني) و30 يوليو (تموز) عام 1999، شاهدنا خامنئي يقيم صلاة الجمعة مرتين؛ الأولى كانت بعد "الاغتيالات المتسلسلة" في وزارة الاستخبارات.
وفي صلاة الجمعة هذه، ادعى خامنئي أن المتورطين في هذه الاغتيالات من عناصر وكبار المسؤولين الأمنيين لن يمثلوا النظام وأن أعمالهم هذه مرفوضة جملة وتفصيلا وسيحاسبون عليها.
لكن هذه التصريحات لم تؤثر كثيرًا على الرأي العام، بل على العكس، في 9 يوليو (تموز) 1999 خرجت مظاهرات واسعة النطاق ضد خامنئي، أمام جامعة طهران، مما أدى إلى رد فعل عنيف من قبل قوات الأمن وعناصر التعبئة، تبعها اعتقال وضرب الكثير من الطلاب والمواطنين العاديين كما قتل عدة أشخاص، هذه الأوضاع أجبرت علي خامنئي على إلقاء خطبة الجمعة مرة أخرى بعد فاصل زمني قصير، لتهدئة الأجواء السياسية والرأي العام في البلاد.
وبعد عشر سنوات، في 21 يونيو (حزيران) 2009. عاد خامنئي إلى منبر صلاة الجمعة في طهران مرة أخرى عندما شهدت إيران احتجاجات واسعة النطاق اعتراضًا على تزوير الانتخابات الرئاسية، حيث أعُيد انتخاب أحمدي نجاد رئيسًا للجمهورية. هذه الاحتجاجات الواسعة، التي أطلق عليها اسم "الحركة الخضراء" والتي كانت بقيادة كبار المسؤولين السابقين والمقربين من آية الله الخميني، مثل مير حسين موسوي، ومهدي كروبي، أجبرت علي خامنئي على إقامة صلاة الجمعة. وقد أيد مرشد الجمهورية الإسلامية في هذه الخطبة من صلاة الجمعة بقوة انتخاب أحمدي نجاد، الذي انحنى وقبّل يده خلال حفل تنصيبه رئيسًا.
دلالات وتداعيات الخطبة الأخيرة لصلاة الجمعة
جاء خامنئي هذه المرة متأخرًا ليرتقي منبر الخطابة في صلاة الجمعة..
في عملية مباغتة، فجر يوم الجمعة 3 يناير (كانون الثاني) الماضي، قتل البنتاغون قاسم سليماني، أقوى شخصية عسكرية، وأحد أوفى المسؤولين الكبار للمرشد الإيراني.
وکان من الطبيعي أن لا يُبدي خامنئي ردة فعل سريعة، لأن صدمة مقتل سليماني لم تسمح له باتخاذ القرار السريع واستخدام منبر صلاة الجمعة للإدلاء بما في نفسه من قرارات ومواقف.
وحتى بعد استهداف القاعدتين الأميركيتين في العراق (عين الأسد، وحرير) في الثامن من يناير (كانون الثاني) الماضي لم يدلِ خامنئي بتصريحات آنذاك.
من الأرجح، كان علي خامنئي ينتظر رد فعل الرأي العام في الداخل والخارج، خاصة بعد إسقاط الطائرة الأوكرانية إثر إصابتها بصواريخ الدفاعات الجوية الإيرانية التي تزامنت مع الهجوم على القاعدتين الأميركيتين المذكورتين والتي شوّهت سمعة إيران بشدة على الصعيد الداخلي والخارجي.
انتظر المرشد الإيراني أسبوعًا بعد إسقاط طائرة الركاب الأوكرانية، ثم ارتدى يوم الجمعة 17 يناير (كانون الثاني) الماضي رداء الإمامة ووجّه خطابه ذا المغزى إلى المصلين، قائلا إننا "اجتزنا أسبوعين مفعمين بالأحداث الاستثنائية، حيث يجب أن نعتبر منها".
سعى المرشد الإيراني، خلال خطبة صلاة الجمعة، إلى إبراز مقتل قاسم سليماني والاستهداف الصاروخي للقواعد الأميركية، بأنهما حدثان كبيران ومصريان يمكن الانتفاع منهما لتعزيز واستمرار الثورة الإيرانية. وقال بصراحة تامة إن هذين اليومين من أيام الله ونقطتان للتحول وصناعة التاريخ وليسا من الأيام العادية.
كما سعى خامنئي، في الوقت نفسه، إلى توجيه رسائل لجمهوره في الداخل والخارج. وفي هذا السياق أكد أن رد إيران باستهداف القواعد الأميركية يحظى بأهمية بالغة، معتبرًا أن هذا الرد الإيراني ضربة لمنزلة ومكانة أميركا على الصعيد العالمي.
وعلى هذا الأساس، سعى خامنئي في خطابه إلى توجيه رسالة إلى فئتين من جمهوره، الأول أولئك الذين اعتبروا أن الرد الإيراني على مقتل سليماني، أهم شخصية عسكرية في النظام الإيراني، كان ردًا تافهًا وعديم الأهمية، خاصة أن هذا الرد المسمى "الانتقام الصعب" لم يسفر حتى عن مقتل جندي أميركي واحد.
وأما رسالة خامنئي الثانية، فكانت أن إيران هي الدولة الوحيدة التي استهدفت القواعد الأميركية بشكل مباشر، منذ هجوم "بيرل هاربر" عام 1941 خلال الحرب العالمية الثانية، وإذا لزم الأمر يمكن أن يتم هذا الاستهداف ضد أي دولة معادية أخرى.
تأكيد أهمية قاسم سليماني في خطاب المرشد اﻹيراني
لتأكيد أهمية ومكانة قاسم سليماني لدى المرشد الإيراني تكفي الإشارة إلى قوله: "الشهيد قاسم سليماني كان أحد القادة الذين كانوا يقومون بأعمال لم يستطع القادة الآخرون القيام بها. على سبيل المثال، كان الشهيد سليماني يدخل بواسطة طائرة مروحية إلى منطقة محاصرة بالكامل من قبل العدو، ويقود الشباب المقاومين، الذين لم يكن لهم قائد، بطريقة تحمسهم وتجعل العدو يفر من أمامهم".
ربما بسبب هذه المواصفات تم الاحتفاظ بقاسم سليماني على رأس "فيلق القدس" 21 عامًا، ولم يكن أي شخص في الجمهورية الإسلامية يُحتفظ به في موقع مهم بهذا القدر.
والحقيقة هي أن الاقتباس أعلاه لا يعبر فقط عن حزن مرشد الجمهورية الإسلامية لفقدان سليماني، بل يُظهر أيضًا عدم ثقته بقيادة "فيلق القدس" الجديدة. وبحسب علي خامنئي، فإن القائد الجديد لـ"فيلق القدس"، العميد إسماعيل قاآني، ليس على مستوى قاسم سليماني ولا يمكنه إدارة ملف النفوذ الإقليمي الإيراني مثل سليماني. هنا يظهر أحد الأضرار الإدارية الأكثر أهمية للجمهورية الإسلامية، حيث يتم انتخاب وتعيين كثير من المسؤولين حتى في المجال العسكري، ليس على أساس الجدارة؛ بل على أساس القرب من مؤسسة السلطة والطاعة المطلقة للقائد.
وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن علي خامنئي، مرشد الجمهورية الإسلامية، جاء في يوم الجمعة 17 يناير (كانون الثاني)، إلى المنبر فقط، لأنه شعر بأن نظامه يواجه أزمات مختلفة على الصعيدين الداخلي والخارجي، أزمات كان تزامنها وفاعليتها بعضها مع بعض لم يسبق لهما مثيل خلال أربعين سنة من حياة الجمهورية الإسلامية.
في غضون أسبوعين فقط، شهد خامنئي مقتل أقرب شخصية عسكرية وأكثرها ولاءً، وهو مدير السياسة الإقليمية للجمهورية الإسلامية في الشرق الأوسط، وإسقاط طائرة الركاب الأوكرانية، والتصعيد غير المسبوق مع الولايات المتحدة في العراق، ومؤازرة أوروبا للولايات المتحدة ضد إيران، وتشكيل تحالف إقليمي ضد الجمهورية الإسلامية وعودة الاحتجاجات الاجتماعية داخل البلاد.
بمعنى آخر، رأى خامنئي الجمهورية الإسلامية في مهب الرياح الداخلية والخارجية، وسعى للحفاظ على توازن نظامه من خلال الحضور الأسطوري في صلاة الجمعة بطهران. ومع ذلك، فإن الأنظمة الشمولية الآيديولوجية مثل الجمهورية الإسلامية لا تقبل أبدًا أن عصر الأساطير قد ولى، وأن أنظمتها ليس بإمكانها إعادة إنتاج العصر الأسطوري من جديد.