أسباب تراجع الاحتجاجات العامة في إيران ومآلاته
على الرغم من المستويات المرتفعة من عدم الرضا في إيران، أعلن وزير الداخلية الإيراني، عبد الرضا رحماني فضلي، يوم 18 أغسطس (آب) الماضي، أن معدل الاحتجاجات الاجتماعية قد انخفض بنسبة 38 في المائة.
ويثير هذا الادعاء بعض التساؤلات حول أصل الاحتجاجات وأبعادها، حيث تمر إيران بمرحلة حرجة على الصعيدين الداخلي والخارجي، وتتعرض لأشد العقوبات الاقتصادية منذ تشكيل الجمهورية الإسلامية عام 1979.
من تصاعد الأزمة إلى الهدوء
بعد احتجاجات دیسمبر (كانون الأول) 2017، والتي استمرت لمدة شهر تقريبًا، شهدت إيران زيادة في عدد الاحتجاجات العامة والمهنیة، والتي بلغت ذروتها في أغسطس (آب) 2018، تأثرًا بالانخفاض غير المسبوق في سعر الريال، مقابل الدولار، وتراجع المؤشرات الاقتصادية والمعیشیة.
دفع هذا الوضع العديد من المجموعات والجماعات إلى الانضمام لهذه الموجة من الاحتجاجات، كان أبرزهم العمال والطلاب والمدرسون والتجار والأطباء.
بالطبع، لعبت عملية زيادة الضغط الأميركي، والتي بدأت مع الانسحاب من الاتفاق النووي، يوم 8 مايو (أيار) 2018، دورًا بارزًا في تفاقم السخط الاجتماعي في إيران. وفي الوقت نفسه، كان لظهور الضغوط الاقتصادية الأميركية تأثير نفسي هائل على المجتمع الإيراني.
أظهرت التقارير بداية من النصف الأول من شهر مايو (أيار) والنصف الثاني من شهر يونيو (حزيران) 2018، وخاصةً منذ 20 إلى 26 مایو (أيار)، أن إیران شهدت 489 احتجاجًا في مدن مختلفة، مما يعني أنها شهدت 69 احتجاجًا یومیًا في المتوسط، خلال هذه الفترة. ولكن اعتبارًا من دیسمبر (كانون الأول) 2018، تقلصت سرعة الاحتجاجات ونطاقها تدريجيًا، رغم أنها لم تتوقف تمامًا. لهذا السبب، أعلن وزير الداخلية عن انخفاض بنسبة 38 في المائة في الاحتجاجات، وهو انخفاض غير متوقع للاحتجاجات، فالحقيقة هي أنه لم يكن هناك تغيير موضوعي في ظروف المعيشة والمؤشرات الاقتصادية، حتى تقل الاحتجاجات، ولكن على العكس تمامًا، تفاقم الوضع الاقتصادي منذ شتاء 2018.
على سبيل المثال، كان معدل بطالة الشباب في ربیع عام 2019 نحو 25 في المائة، بينما کان في مارس (آذار) 2019، نحو 12 في المائة. كما بلغ معدل التضخم 26.6 في المائة في ربيع عام 2019، لكن في سبتمبر (أيلول) 2018 بلغ 10.2 في المائة.
بالإضافة إلى ذلك، شهدنا، في العام الماضي، أيضًا، تباطؤًا في النمو الاقتصادي وانخفاضًا في سعر الريال، مع اضطرار الحكومة الإيرانية إلى إزالة 4 أصفار من الأوراق النقدية للسيطرة على الأزمة الاقتصادية.
كل هذه التطورات السلبية كانت ناجمة عن الضغط المتزايد للولايات المتحدة، الذي بلغ ذروته في مايو (أيار) 2019 مع رفع الإعفاء من تصدير النفط الإيراني، ونتيجة لذلك، انخفضت صادرات النفط إلى أقل من 300 ألف برميل يوميًا، في يونيو (حزيران) الماضي.
وبحسب التقاریر الواردة هبطت صادرات النفط الإيرانية من 1.1 مليون برميل يوميًا في يناير (كانون الثاني) الماضي، و2.9 مليون برميل يوميًا في الفترة السابقة لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، في مايو (أيار) 2018، إلى نحو 100 ألف برميل يوميًا في يوليو (تموز) الماضي.
كما تضمنت العقوبات فرض حظر على صادرات البتروكيماويات والمعادن، لحرمان إيران من جميع موارد النقد الأجنبي في سياق "حملة الضغط القصوى" لإدارة ترامب. كما واجهت إيران تحديات كبيرة في تحويل العائدات من صادرات النفط المنخفضة والمنتجات غير النفطية نتيجة للعقوبات المفروضة على المعاملات المالية والمصرفية.
سياسة الاحتواء
يمكن أن يعزى انخفاض الاحتجاجات العامة، مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، إلى مجموعة متنوعة من العوامل؛ منها أن جمهورية إيران الإسلامية، استغلت الضغط المتزايد الذي تمارسه الولايات المتحدة الأميركية كتحدٍ يهدد النظام والدولة، وسعت للسيطرة على الضغوط الاجتماعية الواسعة النطاق وإدارتها، بحجة خلق إجماع وطني ضد التهديدات الخارجية.
بالإضافة إلى ذلك، سعى الحرس الثوري، من خلال استغلال بعض العمليات العسكرية في المنطقة، إلى زيادة روح التحدي للعدو الأجنبي والثقة العامة في الحكومة وإظهار البلاد علی أنها ضحية لمؤامرات خارجية.
وعلى الرغم من توسع حركة الاحتجاجات بشكل كبير مع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، فقد أصبح من الواضح للمتظاهرين الإيرانيين أن تغيير النظام لم يكن جزءًا من استراتيجية إدارة ترامب، وبالتالي فقد عدد كبير من المحتجين الدافع لمواصلة احتجاجاتهم وقدرتهم على التعبئة الاجتماعیة.
ومع ذلك، أعدت جمهورية إيران الإسلامية خططًا محددة، مع زيادة الاحتجاجات؛ أولاً، قامت قوات الأمن بقمع واحتجاز واختطاف المتظاهرين الذين اتُهم كثير منهم باتهامات نمطية، بالارتباط بالأجانب والعمل ضد أمن الدولة والنظام.
وفي هذا السياق، استخدمت الحكومة الإيرانية قوات الباسيج والميليشيات الأجنبية، بما في ذلك حزب الله اللبناني، والحشد الشعبي العراقي، لقمع الشعب.
في الخطوة الثانية، من خلال الوسائل القانونية، جرت محاولة للسماح ببعض المظاهرات في مواقع محددة، للسيطرة على الاحتجاجات في إطار مهني محدد، وتفاديًا لتوسيع رقعتها.
كما أعلنت الحكومة، من خلال إظهار المرونة مع مطالب بعض الجماعات والنقابات، أن من حق الشعب والمتظاهرين أن یناقشوا وینتقدوا بعض المؤسسات والمسؤولين.
وقامت الحكومة أيضًا ببعض التغييرات على مستوى الوزارات الاقتصادية لإظهار الامتثال لمتطلبات المحتجين.
بالإضافة إلى ذلك، في هذه المرحلة، تمت المناورة على بعض عناصر الخطاب الديني وتعزيزها من أجل التأكيد على الوحدة ومواجهة العدو الأجنبي.
مستقبل الاحتجاجات
إن خفض وتيرة الاحتجاجات بنسبة 40 في المائة، وفقًا لوزير الداخلية الايرانية، يعني أن 60 في المائة منها ما زال قائمًا. لذلك، يعيش المجتمع الإيراني في حالة من التوتر والاحتجاج في ظل الظروف الاقتصادية والمعیشیة الصعبة التي من المحتمل أن تزداد سوءًا.
وعلى الرغم من أن جمهورية إيران الإسلامية، بكل أدواتها الأمنية والسياسية، نجحت إلى حد ما في تخفيف حدة التوترات الاجتماعية، لكن في غياب حلول واقعية للأزمة الاقتصادية، تعتبر هذه الإجراءات مجرد مهدئات مؤقتة، ومن الممكن أن تعود الاحتجاجات بكثافة وسرعة أكبر.
ومما لا شك فيه، أن الطريق للخروج من الأزمات الحالية هو إيجاد حلول للمشاكل الناجمة عن الضغوط الخارجية، والتي تشكل أهم تحد لجمهورية إيران الإسلامية واقتصادها الهش.
إلى ذلك، هناك عدة مؤشرات تفيد بأن الاحتجاجات الجماهيرية لن تتناقص في المستقبل، خاصة مع ارتفاع نسبة بطالة الشباب واتساع جموع العاطلين عن العمل، حيث إن آفاق الوضع الاجتماعي ستکون قاتمة.
بالإضافة إلى ذلك، نظرًا للعواقب المحتملة لاستمرار التراجع في عائدات النفط، وعدم كفاءة برنامج التقشف الاقتصادي، واقتراب موعد الانتخابات الأميركية التي من المحتمل أن يفوز فيها ترامب، فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى تفاقم الوضع وتقليل شرعية الحكومة وتآكل مواردها المالية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الاحتجاجات.
وفي المقابل، إذا ما وافقت جمهورية إيران الإسلامية على الحوار مع الولايات المتحدة، فستكون هناك فرصة لتناقص الاحتجاجات.
وبالنظر إلى الوساطة الدولية، لا سيما الجهود الفرنسية، فإن احتمال بدء مرحلة جديدة من المفاوضات أو حل بعض النزاعات، بما في ذلك تخفيض العقوبات أو إمكانية تفعيل آلية التعامل المالي مع إيران، أمر غير مستبعد.
مثل هذا الموقف من شأنه أن يساعد في تحسين الوضع الاقتصادي في إيران وربما يؤدي إلى تهدئة الوضع الاجتماعي وتخفيف حالة الاستیاء.
وبالتالي، يمكن القول إن الاحتجاجات العامة في إيران غالبًا ما تكون ردًا علی ظروف اقتصادية قاسية، وليست ذات طبيعة سياسية.
لهذا السبب، يمكن أن يكون تحسين الوضع الاقتصادي استجابة جيدة لحالة الاحتجاج الحالية.
من هذا المنظور، يبدو حل مشكلة الاستياء أمرًا ممكنًا إلى حد ما. لكن إدارة التوترات الاجتماعية في إيران والسيطرة على عواقبها لن تكون ممكنة عن طريق الأسالیب الأمنیة، بل عن طريق حل المشاكل الاقتصادية الناتجة عن العقوبات الأميركية التي تشل الاقتصاد، وذلك لن یحدث إلا إذا أظهرت جمهورية إيران الإسلامية مزيدًا من المرونة في مسألة المفاوضات الشاملة مع الولايات المتحدة.