جدل "الخدمات الجنسية" في قم ومشهد.. والعراقي "المتهم الأول"
لا تعتبر قضية عرض الخدمات الجنسية في مدينة مشهد الإيرانية، للزوّار العراقيين، موضوعًا جديدًا يتم تداوله في الأسبوعين الأخيريين فقط، بل إن جذور هذا الملف المثير للجدل ترجع إلى السنوات الأربع الماضية، حيث تداولته كثير من وسائل الإعلام عرضًا وتحليلاً، خلال هذه الفترة، وقامت بمناقشة كافة أبعاده وزواياه.
لكن هذا الملف عاد إلى الواجهة من جديد، خاصة بعد أن قامت صحيفة "شهروند" (المواطن)، شبه الحكومية، بنشر تقرير بعنوان "الرجال العراقيون وأزمات العزوبة"، وذلك يوم الأحد 26 أغسطس (آب) الماضي، وساهم هذا التقرير في تسليط الضوء من جديد على هذه القضية التي كثر الحديث عنها في الأيام الأخيرة.
وأكد التقرير، نقلاً عن رئيس اتحاد الفنادق في محافظة خراسان رضوي، محمد قانعي، حصول المسافرين العراقيين على خدمات جنسية من إيرانيات، في ما يسمى "بيوت المسافرين".
وقال قانعي في تصريحاته لصحيفة "شهروند" الإيرانية: "لوحظ تزايد عدد السياح غير الإيرانيين، ولا سيما العراقيين، في مدن مثل قم ومشهد، اللتين تعدان الواجهة الأولى للزوّار في إيران.. والآن وبعد انتشار ظاهرة الزواج المؤقت، يجب أن نكون أكثر حذرًا وانتباهًا”.
ونشر موقع "خبر أونلاين"، قبل ذلك بأسبوع، تقريرًا جاء فيه أنه مع وجود أمر يقضي بأن تمتنع الفنادق الرسمية والمعتمدة عن قبول العائلات التي يكون فيها الرجل أجنبيًا والمرأة إيرانية (حتى وإن كانا متزوجين شرعًا)، فإن عددًا كبيرًا من الزوّار الأجانب، لا سيما العراقيين، يسمح لهم بالإقامة في المنازل الشخصية، وتكثر هذه الظاهرة كثرة مفرطة، خاصة فيما يسمى "بيوت المسافرين"، التي لا تمتلك رخصة قانونية، ولا توجد عليها رقابة وإشراف حكومي.
وأكد محمد قانعي أن من بين 7300 "بيت مسافر" في مدينة مشهد، لا يمتلك الرخصة القانونية سوى 600 بيت فقط.
لقد انتشر هذا التقرير الصحافي انتشارا واسعًا، وأعيد نشره في عدة وكالات إيرانية، مثل وكالة إيسنا، وتناولته وسائل إعلام فارسية في الخارج، كما تفاعل معه رواد التواصل الاجتماعي.. كل ذلك الاهتمام أدى إلى تعليق مسؤولين إيرانيين وشخصيات سياسية على الموضوع، ولم يمض سوى يومين حتى خرج روح الله جمعة أي، مستشار وزير الداخلية الإيراني، ونفى هذا الخبر، وأعلن أنه لا توجد أية إحصائيات موثقة حول هذا الملف.
بعدها تغير موقف رئيس اتحاد الفنادق بمحافظة خراسان، ربما بسبب ضغوط تعرض لها، فخرج ليعلن أن "الخبر المتعلق بسفر العراقيين إلى إيران تمّ تحريفه وتغيير مضمونه، وإنني أنفي أصل هذا الخبر، لا شك أن وجود السياح في أي بقعة من العالم لا بد أن تتزامن معه أحداث لا يملك أحد عنها أي إحصائيات ووثائق".
وجود الخدمات الجنسية في مشهد.. شائعات أم حقائق؟
يرفض المسؤولون الإيرانيون مثل هذه التقارير جملةً وتفصيلاً، في الوقت الذي يرى فيه بعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي أن حصر الإعلان عن مثل هذه الخدمات الجنسية في العراقيين فقط، يساهم في نشر الكراهية ضد العرب، وهو ترسيخ للطائفية العرقية.
نستطيع القول إن كل من يعيش في إيران خلال العقود الأربعة الأخيرة، خاصة من زار المدن الدينية مثل قم ومشهد، لا بد أنه رأى عن قرب النشاط الجنسي المصطبغ بغطاء ديني ومذهبي يتمثل في ظاهرة "زواج المتعة"، بل إن هناك أيضًا خدمات جنسية دون غطاء ديني، تقدم للزوار وللمواطنين المقيمين على حد سواء في هاتين المدينتين.
ويرى البعض أن اتساع الفجوة بين الطبقات وتفاقم ظاهرة التهميش المجتمعي في مدينة مشهد أديا إلى لجوء بعض النساء إلى الدعارة للحصول على ما يسد حاجتهن.
واللافت في هذا السياق أن بعض المسؤولين في مشهد يتطرقون لمناقشة ظاهرة "الحفلات الموسيقية والحياة المهمشة"، ويربطون هذه الظاهرة بما يصفونه بـ"إقبال النساء على الدعارة والجنس".
والأكثر إثارة للانتباه أن المسؤولين الإيرانيين الذين لا يعيرون اهتمامًا لظاهرة لجوء النساء إلى عرض أجسادهن للبيع، وامتهان الدعارة، من أجل لقمة العيش، في واقع اقتصادي أليم، هؤلاء المسؤولون أنفسهم يرفضون التصريح للحفلات الموسيقية، بل إن إمام جمعة مشهد، أحمد علم الهدى، يصرّح علنًا بأن من يريد المشاركة في الحفلات الموسيقية "عليه الخروج من مشهد ومغادرة المدينة".
وقد كان التيار الأصولي المتشدد المقرب من علم الهدى، هو صاحب السلطة والنفوذ في المدينة، لكن وجودهم في السلطة لم يحد من تفشي ظاهرة الحياة الهامشية والمناطق العشوائية المنتشرة في مشهد، إن لم يكن وجودهم هو السبب في تأزم الوضع وتفاقمه.
العنصرية عنوان خاطئ
قبل ثلاث سنوات، نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية، تقريرًا بعنوان "العبادة.. والطعام.. والجنس.. والحدائق المائية في مشهد المقدسة"، وأشارت الصحيفة في التقرير إلى إقبال العراقيين على زيارة المدينة والحصول على خدمات جنسية تحت غطاء "زواج المتعة". وجاء في هذا التقرير، نقلاً عن عدة مواطنين من مدينة مشهد، أن العراقيين يأتون إلى مشهد، هربًا من الصراع والحرب الدائرة هناك، وأنهم لا ينفقون كثيرًا من الأموال في هذه المدينة.
ونقلت الصحيفة البريطانية الشهيرة عن مواطن آخر أن العراقيين الذين يقصدون مشهد للسفر يبحثون عن إيرانيات من أجل ممارسة الجنس. وقد أحدث تقرير صحيفة "الغارديان" صدى كبيرًا في الداخل الإيراني وقتها، لكنه لم يكن مثل التقارير والأخبار الأخيرة التي تداولتها وسائل الإعلام الإيرانية وغير الإيرانية والتي أحدثت أصداء واسعة، للدرجة التي أجبرت مسؤولين إيرانيين للتعليق على الموضوع ونفيه واتهام أطراف أخرى "باستغلال الخبر وإخراجه عن سياقه”
إن انتشار خبر صحيفة "شهروند" الإيرانية، وإعادة نشره في كثير من المواقع الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي، كل ذلك أدى إلى ردود فعل مختلفة؛ فالتقرير الذي نشرته الصحيفة بعنوان "أزمة كرامة" أثار حفيظة وغضب كثير من المواطنين الإيرانيين.
ومثل هؤلاء المواطنين الذين قد تكون نظرتهم للعرب سلبية بسبب الخلافات السياسية بين إيران وبعض الدول العربية والزخم الإعلامي الكبير الذي يستهدف العرب في الإعلام الإيراني الرسمي، هؤلاء المواطنون يشعرون أن وجود مثل هذه الممارسات هو نتيجة لإهمال الحكومة لكرامة الإيرانيين الوطنية والقومية. باختصار يرى هؤلاء الغاضبون أن السبب هو إهمال الحكومة للثقافة القومية وتفضيل الثقافة الدينية عليها .
غير أن هناك من يرى أن مثل هذا التفسير هو في الحقيقة تفسير عنصري وطائفي عرقي، وأن قصر الظاهرة على الزوار العراقيين فقط يجانبه الصواب، فعلى مدى أربعة عقود من عمر الثورة في إيران كانت الخدمات الجنسية تقدم في قم ومشهد، ولذا فإن حصر الأمر في العراقيين هو توصيف خاطئ واستغلال للتوجه السياسي العام وللصورة الذهنية للمواطنين حيال العراقيين والعرب عمومًا.. فالمعلوم أنه ليس هناك فرق بين أن تكون عربيًا أو إيرانيًا، أو أوروبيًا، أو أذريًا، أو كرديًا، أو بختياريًا، ففي مشهد تقدم الخدمات الجنسية مقابل المال، بغض النظر عن الجنسية أو الانتماء العرقي.
الموضوعية والوعي ضرورة اجتماعية
تقرير صحيفة "شهروند" ليس هو الأول، و يبدو أنه لن يكون الأخير، بل ستظهر تقارير وأخبار أخرى حول هذا الموضوع؛ فخلال العام الماضي انتشر مقطع فيديو لعراقيين يقفون بالقرب من امرأتين بجانب أحد البيوت في مدينة مشهد، وقد انتشر هذا المقطع سريعًا في وسائل التواصل الاجتماعي، وأثار غضب بعض المواطنين.
لكن الأهم من ذلك أن على دائرة الرقابة الاجتماعية، أو السلطة القضائية، أو غيرهما من المؤسسات المعنية بمثل هذه الأمور، القيام بدراسة اجتماعية، وتقديم تحليل موضوعي لما يحدث في مدينة مشهد، وأن تتم السيطرة من خلال القيام بمثل هذه الإجراءات على حدة الغضب والانفعال الشعبي بما لها من آثار سلبية مخربة، وكذلك نشر الوعي الاجتماعي بين المواطنين الإيرانيين.
لكن يبدو أن الجانب الحكومي لا يريد الاعتراف بهذه الحقائق التي استمرت طوال العقود الأربعة الماضية من عمر نظام الجمهورية الإسلامية في مشهد؛ ذلك أنهم حينها يكونون أمام تساؤل حقيقي حول المبادئ والقيم الآيديولوجية للنظام والأسس التي يدعي أنه يعتمدها في نهجه وسياساته، فكيف لهم أن يعترفوا بوجود هذه الممارسات في مدينة يزعمون باستمرار أنها عاصمة العالم الإسلامي؟
هذا من جانب، ومن جانب آخر، ينبغي عليهم عندئذ أن يعترفوا أن هذه الخدمات الجنسية ليست محصورة على السياح العراقيين والعرب، بل إن الخدمات الجنسية متاحة للجميع بمن فيهم المواطنون المقيمون في مشهد. وإذا رأينا تزايد عدد العراقيين في الآونة الأخيرة في مدينة مشهد فمردّ ذلك لتراجع قيمة العملة الإيرانية أمام الدولار والدينار العراقي، وبالتالي فإن سفر الشيعة العراقيين إلى إيران يكون قليل التكلفة.
وإذا كان المسؤولون عاجزين عن الاعتراف بهاتين الحقيقتين، فإنهم يلجأون إلى أدواتهم التقليدية في التغطية على الحدث، ودفن الحقائق المرئية رأي العين؛ وها هي وكالة "إيسنا" تنفي خبر تقديم الخدمات الجنسية للعراقيين جملة وتفصيلا، بعد يوم واحد من إعادة نشرها للتقرير نقلا عن صحيفة "شهروند". كما يخرج علينا أحمد علم الهدى، في خطبة صلاة الجمعة في مشهد، ليقول إن هدف نشر مثل هذه الأخبار هو "الإساءة إلى قدسية مدينة مشهد".