كابوس مشروع ميزانية العام المقبل في إيران
مشروع ميزانية العام الإيراني المقبل 1399 شمسي (مارس/ آذار 2020 – مارس/ آذار 2021)، والذي تم تقديمه إلى البرلمان يوم الأحد 8 ديسمبر (كانون الأول)، اختصر بصورة واضحة وشفافة الصعوبات الكبرى التي تتحدى الاقتصاد الإيراني والتي يمكن الجزم بأنها الأصعب منذ نهاية الحرب مع العراق؛ حيث انهيار النمو الاقتصادي، والتضخم المفرط، وتعطيل التجارة الخارجية، والتراجع الملموس للقوة الشرائية للشعب. اجتمعت كلها لتشكل أجواء غير مواتية بالمطلق لتنظيم أهم وثيقة سنوية في إيرادات وإنفاق البلاد. ضمن هذه الظروف، قدمت حكومة حسن روحاني مشروع الميزانية إلى السلطة التشريعية، وبدلاً من أن تحسن الأوضاع أصبحت كابوسًا جديدًا للإيرانيين وحياتهم الاقتصادية.
أطر عامة
یعتبر تخصیص نسبة كبيرة من الميزانية الإجمالية للبلاد للقطاع العام، واحدًا من التقاليد القديمة في إعداد الموازنة في إيران، وقد حافظت عليه الميزانية الجديدة المقترحة وكثفته أيضًا. أود أن أشير هنا إلى أن الميزانية العامة في إيران تتكون من جزأین:
الأول: هو ميزانية الحكومة العامة (الوزارات والهيئات الحكومية).
والثاني هو ميزانية الشركات والبنوك الحكومية والمؤسسات غير الربحية التي تديرها الحكومة.
في مشروع الموازنة التي قدمها روحاني إلى البرلمان يوم الأحد 8 ديسمبر (كانون الأول)، تم تخصيص نحو 72 في المائة من إجمالي إيرادات الميزانية في البلاد التي تقدر بـ1988 ألف مليار تومان، أي ما يعادل 1425 ألف مليار تومان، للشركات والبنوك الحكومية والمؤسسات الربحية التابعة للحكومة. ومن أصل 563 تريليون تومان المتبقية من الميزانية العامة، فإن 79 تريليون تومان منه هو من الدخل الخاص بالمؤسسات الحكومیة والذي تديره هي بنفسها. لذا فإن ما تبقى أي 484 ألف مليار تومان، هو المبلغ الفعلي لميزانية الجمهورية الإسلامية في العام المقبل.
بعبارة أخرى، من أصل 1988 ألف مليار تومان التي قدمت إلى البرلمان تحت عنوان الميزانية العامة للبلاد، تم تخصیص نحو 76 في المائة لـ(ميزانية الشركات والبنوك الحكومية بالإضافة إلى الإیرادات الخاصة للمؤسسات الحكومية) وهي عمليًا خارج رقابة السلطة التشريعية في البلاد.
يعتبر تقديم هذا الجزء من الميزانية إلى البرلمان حركة صورية، رغم أن حسن روحاني وعد بأنه من الآن فصاعدا ستتم مراقبة إيراد وإنفاق الشركات والبنوك الحكومية من قبل السلطة التشريعية. إلا أن هذا الوعد يجب أن لا يؤخذ على محمل الجد، لأن معالجة إيراد وإنفاق الشركات والبنوك الحكومية ليست قضية شهر أو شهرين وهذه المجموعة المتداخلة تفلت من الشفافية بكل أسرارها وریعیاتها الفلكية.
هذه الخانة المظلمة الضخمة هي واحدة من أهم مصادر الفساد المتفشي الذي عشعش في كل الجمهورية الإسلامية، حيث يتمتع أصحاب الكراسي المسيطرون على هذه البيروقراطية الواسعة بحرية كبيرة لاستغلال هذه الميزانية الغامضة، والأرباح الضخمة لأصحاب التوقيعات الذهبية تأتي من هذا الطريق. وقضية الرواتب الفلكیة التي ظهرت قبل نحو عامين تحت اسم "Fish gate" أثارت ضجة كبيرة، وسببها الرئيسي ينبع من هذه الخانة المظلمة (الميزانية). لقد منح المسؤولون النافذون في الجمهورية الإسلامية عن طريق هذه الميزانية غير الشفافة، وظائف دائمة لأقاربهم، الذين یفتقرون إلی التخصص، في حين أن مئات الآلاف من خريجي الجامعات عاطلون عن العمل.
ما نؤكده هنا أن الميزانية العامة في إيران (باستثناء الإيرادات الاختصاصية؟) التي ذكرت في ميزانية العام المقبل، كما ذكر أعلاه تقدر بمبلغ 484 ألف مليار تومان.
تتكون إيرادات (مصادر) الميزانية بشكل رئيسي من عائدات النفط والضرائب.
*أعلنت العائدات المتوقعة من صادرات النفط في مشروع ميزانية العام المقبل بـ48 ألف مليار تومان. وسنرى أن هذا الرقم لا يتطابق مع الواقع، وأن جزءًا من الإيرادات المتوقعة من النفط جاء تحت اسم آخر وفي مكان آخر تجنبًا للانتقادات لعدم واقعية الميزانية.
* الإيرادات المتوقعة من الضرائب والجمارك قدرت في الميزانية بـ195 ألف مليار تومان.
بالمقابل، يتم تخصيص مدفوعات الميزانية بشكل أساسي لثلاثة مجالات رئيسية.
*النفقات الجارية، حسب رئيس منظمة الميزانية والتخطيط محمد باقر نوبخت، تبلغ 360 ألف مليار تومان. خصص من هذا المبلغ 240 ألف مليار تومان للرواتب والأجور.
* تكالیف المشاريع العمرانية والتي أعلن عنها حسن روحاني بمقدار 70 ألف مليار تومان.
*سداد الديون والالتزامات
حركات السحر النفطية
تواجه عائدات النفط والضرائب المتوقعة، وهما المصدران الرئيسیان للتمويل العام في البلاد، غموضًا کبیرًا.
الغموض الأول: تخمين مبلغ 48 ألف مليار تومان في مشروع ميزانية العام المقبل لإيرادات النفط، وهو نتيجة خدعة سحرية من أجل تحقيق هدفين رئيسيين.
الهدف الأول هو التظاهر بأن الحكومة قد خفضت توقعاتها لعائدات النفط وأن تأمين هذا المبلغ من الإيرادات ممكن تحت ظروف "العقوبات القصوى". بهذه الحركة يأمل معدو الميزانية الابتعاد عن انتقاد المنافسين عن طريق خفض رقم الإيرادات المتوقعة من عائدات النفط إلى أقل مما هو متوقع بالفعل.
الهدف الثاني من حركة السحر هذه هو تقليل أهمية حصة النفط في ميزانية الدولة، لإثبات أن إيران على درب "الصمود"، وقللت من اعتمادها على النفط وليست بعيدة عن "اقتصاد من دون نفط".
لكن الحقيقة أمر آخر، والخبراء داخل البلاد تمكنوا خلال ساعات قليلة من معرفة الرقم الحقيقي لإيرادات بيع النفط المتوقعة من قبل الحكومة في العام المقبل؛ صحيفة "دنياي اقتصاد" نشرت في عدد يوم الاثنين 9 ديسمبر (كانون الأول) تقريرًا عن الميزانية تحت عنوان "لغز النفط"، تناولت فيه مشروع الميزانية ونوهت إلى أن الرقم الحقيقي لإيرادات بيع النفط المتوقعة من قبل الحكومة ليست 48 ألف مليار تومان بل 78 ألف مليار تومان.. الحركة السحرية الخفيفة هذه تمت عن طريق استبدال مصادر الإيرادات والتلاعب بالمصطلحات في نص الميزانية، حيث ذكرت هذه الصحيفة أن "السبب الذي أدى إلى انخفاض تركيز النفط في الميزانية على ما يبدو هو تقسيم عائدات النفط إلى قسمين، وهما الأصول الرأسمالية والأصول المالية".
وأضافت صحيفة "دنياي اقتصاد": "للحصول على 78 ألف مليار تومان من عائدات صادرات النفط، يتعين على إيران تصدير مليون برميل من النفط (بفرض سعر البرميل 50 دولارًا). وفي الوقت الحالي فإن أفضل التقديرات لحجم صادرات النفط الإيرانية هي 500 ألف برميل يوميًا، فيما يقدر بعض الخبراء الدوليين الحجم الواقعي للصادرات النفطية بنحو 200 ألف برميل يوميًا".
وهنا يظهر لغز آخر لم تتطرق إليه صحيفة "دنياي اقتصاد"؛ فإذا افترضنا جدلاً أن إيران تصدر مليون برميل من النفط يوميًا، فكيف سيدفع زبائن إيران ثمن هذه الصادرات؟ بالدولار أم اليورو أم بقية العملات القوية الأخرى؟ أم عملة بلد الزبون مثل اليوان الصيني؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف سيتم توظيفها كإیرادات بالعملات الأجنبية في خزانة الجمهورية الإسلامية؟
كل هذه الأسئلة تثير هالة من الغموض حول تأمين إيرادات بمقدار 78 ألف مليار تومان من صادرات النفط في ميزانية العام المقبل، ومن المرجح أن يستغل منتقدو حسن روحاني هذا الغموض خلال دراسة مشروع الميزانية في البرلمان لإضعافه أكثر.
الغموض الثاني: هو عدم حتمية تحصيل 195 ألف مليار تومان من الضرائب والجمارك أيضًا. فلا يمكن تجاهل أن الاقتصاد الإيراني في حالة ركود شديد، وهناك احتمال كبير لنمو سلبي بنحو 10 في المائة خلال العام الإيراني الحالي (أي حتى 21 مارس/ آذار 2020). لقد انخفضت القوة الشرائية للإيرانيين بشدة، وتراجع قسم كبير من الطبقة الوسطى في البلاد إلى ما دون خط الفقر. من ناحية أخرى يعمل عدد قليل من المنشآت الإنتاجية في إيران بطاقة إنتاجية أقل من 50 في المائة، فيما أغلقت عدة منشآت أخرى. كما أثرت العقوبات الخارجية والركود المحلي الشديد سلبًا على التجارة الخارجية في إيران، وأهم مؤشرات هذا التأثير انخفاض حجم الصادرات والواردات في البلاد خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري بالمقارنة مع فترات مشابهة من العام الماضي.
ضمن هذه الظروف هل يمكن أن تسجل الإيرادات الضريبية والجمركية زيادة بنسبة 11 في المائة عن السنة الحالية؟
بالإضافة إلی الإيرادات المتوقعة من الصادرات النفطية (78 ألف مليار تومان) والضرائب والجمارك (195 ألف مليون تومان)، والتي یثیر تحققها أسئلة كثيرة، فإن إيران تحتاج لموازنة ميزانيتها العامة - البالغة 484 ألف مليار تومان - إلى تأمين 211 ألف مليار تومان من مصادر أخرى، بما في ذلك بيع الممتلكات الحكومية وإصدار الأوراق المالية وحتى الاقتراض من الخارج.
أشار الرئيس روحاني ضمن تصريحاته أثناء تقديم ميزانية الدولة العامة، إلى وجود "استثمارات روسية في إيران بمقدار 5 مليارات دولار"، مضيفًا أنه تم الانتهاء من ملياري دولار سابقًا وسيتم تحقیق الباقي في العام المقبل.
ما يقصده روحاني من الاستثمارات الروسية هو إقراض بالدولار للجمهورية الإسلامية، طبعًا هذه خطوة أخرى نحو وضع الجمهورية الإسلامية تحت مظلة دعم موسكو.
بالنظر إلى الغموض الذي يلف مصادر إيرادات مشروع الميزانية المقترحة من حسن روحاني، من المتوقع أن تكون ميزانية العام المقبل إذا تم اعتمادها بشكلها الحالي واحدة من أكبر حالات العجز في تاريخ الجمهورية الإسلامية.