"المغامرة الأخيرة" للمرشد الإيراني في العراق
في الأشهر الثلاثة الماضية، بعد وفاة قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، مرت سياسة إيران في العراق بتغيير جذري.
تغيرت هذه السياسة التي تم تحديدها منذ عام 2011 إلى عام 2018 تحت عنوان "مراقبة الخطوط الحمراء للمصالح" بخصوص لاعبَين مهمين في العراق هما إيران والولايات المتحدة، رويدًا رويدًا، بتأثير انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي.
المرشد خامنئي يتجاهل أي ابتعاد عن المصالح الأميركية في العراق، ويطالب كذلك بخروج القوات الأجنبية من هناك. ولكن ما مدى قابلية تطبيق هذه السياسة الجديدة التي تمثل المغامرة الأخيرة (أو الورقة الأخيرة) للمرشد الإيراني، وهل تستفيد إيران منها؟
من الواضح أن الولايات المتحدة لن تغادر العراق حتى يتم تشكيل حكومة قوية في بغداد، وتقليص تدخلات نظام ولي الفقيه في شؤون دولة بلاد الرافدين. ونتيجة لذلك شهدت القواعد الأميركية في العراق، خلال الأيام الماضية، إعادة انتشار وترتيبات عسكرية جديدة. الآن، مع إضافة نظام "باتريوت" للدفاع الجوي، وانسحاب القوات الأميركية من مراكز تجمع ميليشيات حزب الله، لن تستطيع الجماعات التي يقودها الحرس الثوري مهاجمة القوات الأميركية كما فعلت في الماضي.
في الوقت نفسه الذي تحدث فيه هذه التطورات، هناك أصوات داخل نظامي إيران والعراق تعتقد أن الولايات المتحدة وإيران تسيران بشكل غير طبيعي باتجاه الحرب. ويشارك في هذا الرأي كل من حشمت الله فلاحت بيشه عضو البرلمان الإيراني، وعادل عبد المهدي رئيس الوزراء العراقي المستقيل. ولتجنب أي مواجهة عسكرية يقترحان حوارًا مباشرًا بين الولايات المتحدة وإيران، وهو الأمر الذي يحظره المرشد الأعلى للنظام الإيراني حاليًا، وبدلاً من ذلك یضع سياسة طرد القوات الأميركية و"مهاجمة المصالح الأميركية" في العراق على رأس جدول أعماله.
لكن خامنئي أثار مسألة مهاجمة المصالح الأميركية بالعراق في وقت لم تعد فيه مكانة إيران في الدولة المجاورة كما كانت في السابق، حيث تقلصت بشكل أساسي. الآن تقسّم الحشد الشعبي الذي كان يعتبر ذات يوم أهم ذراع عسكرية وسياسية لإيران في العراق إلى ثلاث مجموعات، مجموعة واحدة منها فقط تتبع سياسات إيران.
هذه القوات التي أصبحت بشكل رسمي جزءًا من المنظومة العسكرية العراقية منذ عام 2016. وانضمت تحت قيادة القائد العام للقوات المسلحة، رئيس الوزراء، حافظت على ميولها السياسية والدينية، وانقسمت إلى ثلاث مجموعات رئيسية.
المجموعة الأولى: هي فرع الحشد الشعبي الذي يتألف من طلاب المدارس الدينية العراقية الذين يعتبرون أنفسهم خاضعين لأوامر آية الله السيستاني، لذلك يطلق عليهم "حشد المرجعية".
وتشكلت المجموعة الثانية بتدخل الحرس الثوري الإيراني. وقد زودهم الحرس الثوري بمراكز ومعدات التدريب اللازمة، وحتى يومنا هذا يوفر لهم جميع احتياجاتهم المالية واللوجستية. وبالتالي، أصبحوا معروفين باسم "حشد الولاية" وأتباع ولاية الفقيه في إيران.. هذه المجموعة الثانية هي الفرع الوحيد من الحشد الشعبي الذي لديه نظام صاروخي وشارك في الحرب السورية بأوامر من الحرس الثوري.
أما المجموعة الثالثة من الحشد الشعبي فتسمى "سرايا السلام"، وتعتبر من فلول "جيش المهدي" لمقتدى الصدر، والذين يعملون تحت قيادته.
قبل مقتل قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس الذي كان يرافقه، كانت جميع جهود قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني تهدف لتحقيق التوازن بين المجموعات الثلاث الرئيسية للحشد الشعبي، وإرغامهم على التعاون مع بعضهم البعض. ومع ذلك، أثار تعيين عبد العزيز محمداوي خلفًا للمهندس من قبل بعض فصائل حزب الله التي تمثل حشد الولاية، احتجاجات من الفرعين الآخرين للحشد الشعبي، وهما حشد المرجعية، وسرايا السلام. وقد أدت هذه الاحتجاجات في نهاية المطاف إلى عدم اعتراف رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة العراقية بتعيين محمداوي ورفض الموافقة عليه.
محمداوي، الذي كان سابقًا أمينًا عامًا لكتائب حزب الله، وعميلاً للحرس الثوري، وكان نشطًا في الحرب الأهلية السورية، وضع انسحاب القوات الأميركية من العراق والانتقام لمقتل قاسم سليماني على جدول أعماله، مثل المرشد خامنئي. وهو معروف بين مؤيديه بـ"الخال"، وكان هو الشخص الذي وثّق حضوره في الهجوم على السفارة الأميركية في بغداد، من خلال كتابة عبارة "الخال كان هنا" على حائط السفارة.
لا تقتصر مشاكل ولي الفقيه في العراق على الاختلافات بين قواته بالوكالة والمجموعات الأخرى للحشد الشعبي؛ فالمشكلة الأخرى التي نشأت منذ مقتل قاسم سليماني هي اتهام الأجهزة الأمنية العراقية بالتعاون مع الولايات المتحدة في اغتيال سليماني، وهو الاتهام الذي أثارته قوات حشد الولاية، حيث أصدر المتحدث باسم كتائب حزب الله، أبو علي العسكري، يوم 2 مارس (آذار) الماضي، بيانًا اتهم فيه الأجهزة الأمنية العراقية بقيادة مصطفى كاظمي بالتعاون مع القوات الأميركية في قتل قاسم سليماني ومرافقيه.
يمكن لهذا الاتهام أن يستهدف عادل عبد المهدي بشكل غير مباشر، لأن أجهزة الأمن في البلاد تعمل تحت إشرافه، على الرغم من أن حزب الله العراقي أوضح في وقت لاحق أن هدفه هو منع ترشيح مصطفى كاظمي لمنصب رئيس الوزراء، الذي كان في ذلك الوقت أحد المرشحين لهذا المنصب. لكن هذه الادعاءات بدورها أثرت على العلاقة بين رئيس الوزراء العراقي المستقيل وخليفة قاسم سليماني.
هناك مشكلة أخرى تتعلق بسياسة ولي الفقيه المناهضة للولايات المتحدة في العراق، وهي أن الأكراد والسنة وبعض السياسيين الشيعة لا يدعمون نهج الحكومة الإيرانية، وأن معظم العراقيين، وخاصة في المحافظات الشيعية، يريدون خروج القوات الإيرانية من العراق، وليس القوات الأميركية. هذا في سياق حقيقة أن العراق ليس لديه حكومة منذ عدة أشهر، حيث فشلت محاولات تكليف مرشحين هما محمد توفيق علاوي، وعدنان الزرفي، ويأتي الآن دور الأوفر حظا مصطفى الكاظمي الذي اتفقت عليه المجموعات الشيعية ورحبت به الخارجية الإيرانية بعد تكليفه من قبل برهم صالح.
رغم ذلك ينتظر المراقبون للوضع العراقي آراء الشارع والساحات العراقية المعارضة التي سبق لها أن رفضت الكاظمي قبل تفشي فيروس كورونا في المحافظات العراقية المجاورة للعراق.
في هذه الظروف، أظهر إسماعيل قاآني، خليفة قاسم سليماني، وآية الله خامنئي، عجزهما وارتباكهما تجاه التطورات في العراق. ولكن الأكثر من ذلك، هو أنه ينبغي على المرشد أن يعرف أنه لن يتمكن أبدًا من تنفيذ السياسة غير العقلانية وغير الواقعية بطرد القوات الأميركية من العراق.. هذه السياسة تعزل إيران في بلاد ما بين النهرين يومًا بعد يوم، وتجعلها إلى جوار تنظيم القاعدة وداعش، لأن المسار الذي اختارته كتائب حزب الله وفصائل ولي الفقيه، يقودهما إلى مواجهة القوات الأميركية بشكل مباشر، وفي هذه الحالة لن يقف معظم العراقيين والأحزاب السياسية في هذا البلد إلى جانب المرشد الإيراني.