لماذا أسقطت إيران الطائرة الأميركية المسيّرة؟
كان إطلاق الحرس الثوري صاروخًا باتجاه الطائرة الأميرکیة المسيّرة، هو آخر حدث في علاقات أميركية إيرانية متوترة.
وفي تبرير هذا القصف، أكد الحرس الثوري الإيراني، ووزارة الخارجية في جمهورية إيران الإسلامية، أن الطائرة الأميركية المسيّرة دخلت المجال الجوي الإيراني، متجاهلة التحذيرات.
ومن وجهة نظر الحكومة الإيرانية، كان إطلاق الصاروخ رد فعل لا مفر منه.
ولكن..
ألم تکن هناك طريقة أخری غیر قصف الطائرة الأميركية؟
ألم يكن ممكنًا، قبل ذلك، تقديم شكوى موثقة للأمم المتحدة والهيئات القانونية الدولية، وتقدیم تحذير جاد لمنع وقوع مثل هذا الحادث؟
وهل إظهار القوة العسكرية في مثل هذه الحالة، یوفر الأمن ويحقق المصالح الوطنیة الإیرانیة، أم یهددها؟
للوهلة الأولى، يمكن النظر إلى ما فعله الحرس الثوري على أنه حماية للمجال الجوي الإیراني، حيث أظهر إمكانياته العسكرية للقوى العالمية والمنافسين الإقليميين، ووفر هامشًا من الأمن للبلاد.
من هذا المنظور، يمكن لقصف الطائرة المسيّرة أن يساعد طهران على أن تنخرط في محادثات مع واشنطن، من موقع قوة.
ولكن عندما يتم تقييم هذا الحادث (الإطاحة بالطائرة الأميركية المسيّرة) إلى جانب الأحداث المهمة خلال الأسابيع القليلة الماضية (بما في ذلك العمليات العسكرية المتنامية للحوثيين التي تدعمها إيران ضد المملكة العربية السعودية، أو بعض الحوادث المتعمدة في العراق والخليج الفارسي)، يمكن أن تظهر لنا احتمالية أخرى، وهي أن المتطرفين في الحرس الثوري والنواة الرئیسیة للسلطة في جمهورية إيران الإسلامية، يبدو أنهم يرحبون، بوعي وعن عمد، بنوع من المواجهة العسكرية العاجلة والمحدودة مع الولايات المتحدة.
من هذه الزاوية، يبدو أن معارضي الحوار في مرکز السلطة یختبرون البيت الأبيض ولسان حالهم يقول: لو كانت الحرب ستحدث، فمن الأفضل أن تحدث الآن، حيث لا يريد اليمين المتطرف الإيراني الانخراط في نزاع عسكري محتمل مع الولايات المتحدة بعد أن تكون العقوبات الاقتصادية قد زادت اتساعًا وعمقًا، وبعد أن تكون احتياطيات العملات الأجنبیة والسلع الأساسية قد نفدت، ناهيك باتساع رقعة الاستياء الاجتماعي.
وبالتالي، فإن وقوع حرب محدودة في الظروف الحالية للبلد سيكون في نظرهم مصحوبًا بدرجة أقل من الضرر والتداعيات السلبية. وفي المقابل لا يرى البيت الأبيض سببًا للتعجل بالدخول في مواجهة عسكرية.
لقد أبدی ترامب وفريقه ضبط النفس حیال السلوك الإيراني والميليشيات التابعة لها في العراق واليمن وعموم المنطقة، ومن جهة ثانية تسعى الولايات المتحدة إلى تشدید العقوبات على الاقتصاد الإيراني المتهالك، واستغلال التداعيات الاجتماعية والسياسية لذلك.
من هذه الزاوية، ما زال هناك متسع من الوقت قبل استخدام الأداة العسكرية، حيث يمكن أن يستخدمها ترامب کورقة رابحة قبل الانتخابات الرئاسية، للتأثير على العملية الانتخابية، بل يمكنه تأجيل الخیار العسكري ضد إيران إلى فترته الرئاسية الثانية، حيث يستطيع وقتها تجاهل العواقب أو المعارضة.
في الوقت نفسه، يبعث ترامب برسائل إلى إيران باستمرار؛ ليقول للرأي العام العالمي، ولحلفائه الأوروبيين إنه بذل ما يلزم من جهد للتفاوض والمصالحة، وإنه مارس ضبط النفس، بما يكفي، في مواجهة الغطرسة الإيرانية وانفلاتها العسكري أو الأمنی.
ومن ناحيته، يبدو أن اليمين الإيراني المتطرف الرافض للحوار، يرى أنه من الأفضل الانخراط في "مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة"، والتصعيد في هذا الاتجاه، لاستمرار نظامه غير الديمقراطي.
وفي هذا السياق، يبدو أن المتطرفين في مركز السلطة، والذين يهيمن عليهم الحرس الثوري، يطمحون إلى حرب كالتي وقعت بين حزب الله اللبناني وإسرائیل، والتي استمرت 33 يومًا (صيف 2006)، فأي ثمن من وجهة نظرهم مقبول لمواصلة الاستبداد، وبقاء نظام الجمهورية الإسلامية، لكي تصبح أكثر "معاداة للإمبريالية"، وفاعلا قويًا في المنطقة، يقف ضد الولايات المتحدة، ولا يمكن استبعاده. وعلى واشنطن أن تتراجع عن مطالبها وتقدم "تنازلات" للدخول في مفاوضات.
من وجهة نظر هؤلاء الراديكاليين، حتى لو أدت المواجهة العسكرية إلى انكماش اقتصادي حاد، بین عشیة وضحاها، أو حتى إلی موجة من الاحتجاجات وأعمال الشغب، يمكن السيطرة على ذلك وإدارته، فمن الأفضل أن يكون هناك حدث (صراع عسكري) قبل أن تضعف الأسس الاقتصادية ویظهر الاستياء السياسي والاجتماعي بكل تداعياته.
وبعد الأزمة السورية واستقرار بشار الأسد، وكذلك الأزمة الفنزويلية وبقاء نيكولاس مادورو، أخذ رأس الهرم السياسي في إیران يصر على موقفه (عدم التفاوض مع الولايات المتحدة) أكثر من أي وقت مضى؛ حيث یمکن التقليل من آثار العقوبات القاسية الآن بشتی الطرق، فحسب تعبير جواد ظريف: "إيران حاصلة على درجة الدكتوراه في التحايل على العقوبات".
كما أن المدى الجغرافي لإيران، والعلاقات مع موسكو وبكين، يزیدان من هذه الثقة بالنفس. من ناحية أخرى، فإن النواة الصلبة للسلطة في الجمهورية الإسلامية تری نفسها مدعومة بالسلاح والقمع، ولا تری ضرورة وأولویةً لنظام ديمقراطي. لذلك، تتجاهل إرادة الأغلبية والرأي العام الإیراني في توجهاتها الأساسیة والسیاسیة ومشاریعها في الداخل والخارج.
ما يهم، من منظور اليمين المتطرف الإيراني، هو بقاء النظام واستمرار الحكم الاستبدادي والهيمنة، حتى لو کانت المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة، تخلف أضرارًا بشرية ومادية هائلة. وهو نهج غير ديمقراطي متطرف يتعارض مع المصالح الوطنية والأمن القومي لإيران.
الطریف في الأمر، أن هؤلاء المتطرفین یقدمون أنفسهم بوصفهم حماة الأمن القومي والمصالح الإيرانية، ورغم أنهم يستخدمون اسم "إيران" في أدبياتهم ويقصدون بها "الحكومة"، و"النظام القائم على ولایة الفقیه المطلقة"، إلا أنهم عند الممارسة العملية، لا يتورعون عن التضحية بـ"إيران" من أجل استبدادهم.