ثلاثة برامج بارزة في السياسة الخارجية لحكومة روحاني
تعتمد السياسة الخارجية لنظام الجمهورية الإسلامية على مجموعة من القواعد والمبادئ والبرامج التي انتهجتها إيران منذ أربعين عامًا، ومن أهمها اختطاف مواطنين غربيين ومزدوجي الجنسية، بالإضافة إلى إشعال المنطقة والوجود في مناطق الأزمات عن طريق تشكيل ميليشيات، وإرسال صواريخ وألغام وطائرات مسيرة.
يشار إلى أن اليد العليا في تحديد السياسة الخارجية في المنطقة ترجع للحرس الثوري الإيراني واتباع روسيا والصين (سياسة التوجه نحو الشرق).
إلى جانب ذلك، اتبعت حكومة حسن روحاني برامج وسياسات خاصة في السياسة الخارجية، سأتناولها في هذا المقال أولاً، ثم سأشرح إنجازات وإخفاقات هذه السياسة، التي يمكن اعتبارها أيضًا إرثا للسياسة الخارجية لحسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف.
تشكيل لوبي منظم
منذ وصول محمد جواد ظريف إلى وزارة الخارجية بدأ بإنشاء لوبي قوي ومنظم ومزود بمصادر جيدة في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، وكان حسن روحاني قد صرح في مقابلة إعلامية بعد عودته من نيويورك، بأن "إسرائيل لديها لوبي قوي في الولايات المتحدة وتمارس من خلال هذا اللوبي ضغوطها، ونحن بحاجة لملء فراغ اللوبي الإيراني القوي أيضًا، واتخاذ إجراءات تجعل البعض يحاولون التفكير والتعبير عن وجهات النظر الإيرانية، وبالتالي الوصول إلى الرأي العام هناك.. بالطبع، يمكن للإيرانيين المقيمين في الولايات المتحدة أن يلعبوا دورًا مهمًا للغاية وأن يتخذوا الخطوة الأولى، لأن جميع الإيرانيين صوت واحد، ويمكن أن يعكسوا حقيقة إيران". (ألف، 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2013). وتشير جميع الأدلة إلى أن هذا الـ"يجب" تمت متابعته.
وقبل ظريف، كانت هناك محاولات متفرقة من قبل بعض الأفراد (إلى جانب أعمال أخرى مثل العمل في الجامعة أو في شركات خاصة)، لكن روحاني وظريف لم يقبلا بهذا المستوى، بل أرادوا أشخاصًا محترفين لمتابعة هذه المهمة للعمل في مراكز سياسية في العواصم الغربية، كما أن اعتمادهم كان على المسلمين والإيرانيين من أنصار نظام الجمهورية الإسلامية ومجموعات معادية للحكومة الأميركية وسياستها الخارجية أو إسرائيل. وكان تركيز عمل هؤلاء على تشكيل مجموعات تنشر مقالات وتجري مقابلات تلفزيونية وتتخذ مواقف عبر إصدار بيانات تؤثر على الرأي العام للمجتمع في أميركا، وبالتالي تمهيد الطريق للمفاوضات مع البيت الأبيض والكونغرس وتوظيف أشخاص مؤثرين لصالحها في مؤسسات حكومية مثل وزارة الخارجية، و"صوت أميركا"، والمؤسسات المدنية.
اليوم، مثل هذا اللوبي موجود تحت خدمة حكومة روحاني، دون أن يعلن رسميًا عن مسؤولياته ودون أن يعلن أفراده عن تحمل هذه المسؤولية، ويقدمون أنفسهم على أنهم ناشطون في مجال حقوق الإنسان أو محللون، في حين أنهم يقومون بالدعاية للنظام الإيراني ويخدمون مصالحه.
تشكيل مثل هذا اللوبي في الدول الغربية هو أولوية للسياسة الخارجية لحكومة روحاني، لدرجة أن هذا اللوبي يعمل اليوم في أميركا الشمالية (الولايات المتحدة الأميركية، وكندا) وأوروبا، تحت تسميات عدة، وعلى الرغم من العقوبات والمشاكل في الموارد المالية إلا أن الإنفاق على هذا اللوبي لم ينقص أبدًا. وبعد تشكل هذا اللوبي تراجعت شكاوى طهران من اللوبي الإسرائيلي والسعودي في الولايات المتحدة.
وبالنظر إلى اطلاع ظريف على السياسة الداخلية الأميركية، اختار فريقه أفضل مرحلة للقيام بهذا العمل وهي فترة ولاية أوباما، التي لم تعق هذا العمل بل أتاحت المجال لدخول أعضاء هذا اللوبي إلى وزارة الخارجية وغيرها من المؤسسات الحكومية، وبعض الأعضاء كانوا يزورون البيت الأبيض بشكل منتظم.
حتى بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض لم يتراجع نشاط هذا اللوبي، بل إن أنشطته استمرت أكثر وأكثر، فلا يمر يوم دون أن يطرح هذا اللوبي مواضيع ضد السياسة الخارجية لحكومة ترامب في وسائل الإعلام المخالفة له على كثرتها، هذا اللوبي قوي لدرجة يمكنه فيها تجييش جون كيري ومجموعته ضد حكومة ترامب بسبب انسحابه من الاتفاق النووي.
التوافق غير المعلن بين اليسار الأوروبي- الأميركي وتسلط النظام الإيراني
فريق روحاني-ظريف يعلم جيدًا مدى نهم خامنئي ورجال الدين الإيرانيين والحرس الثوري إلى التسلط، كما يعلمون جيدًا نوايا اليسار الأوروبي-الأميركي بالتحالف مع القوى المعادية لأميركا والسعودية.
ومن جهة أخرى، عملوا على قمع الداخل وإشباع حس السيطرة الإقليمية عبر فرض النفوذ الإيراني الاستكباري، ومن جهة أخرى عملوا على تعزيز قدرتهم وتعزيز مقولة "لا دخل لنا" أمام السياسة التوسعية للجمهورية الإسلامية في الشرق الأوسط وانتهاك حقوق الإنسان والمجازر الجماعية. لكن السعودية وإسرائيل ظلتا خارج مقولة "لا دخل لنا"، فبعد سنة كاملة من انشغال وسائل الإعلام الأميركية بموت خاشقجي وملاحقة أصغر التفاصيل في إسرائيل، امتنعت هذه الوسائل لأسابيع عن تغطية القمع والمجازر في إيران على يد خامنئي، وفي العراق على يد الحشد الشعبي، إلى أن وصلوا لدرجة لا يمكنهم خلالها التعامي عن القضية.
الغريب أن بعض وسائل الإعلام الأميركية نشرت بعد شهر أخبار أحداث نوفمبر (تشرين الثاني)، وأيضًا بشكل غير صحيح (غلاء البنزين بنسبة 50 في المائة وتجاهل غلاء البنزين الحر بنسبة 200 في المائة).
ونتيجة لهذا الاتفاق، وبذریعة إیجاد التوازن بين المملكة العربية السعودية ونظام الجمهورية الإسلامية، أفسحت إدارة أوباما المجال لأتباع إيران لتوسيع نفوذهم في العالم العربي. ونتيجة لهذا الاتفاق رفعت إدارة أوباما، بعد الاتفاق النووي، الضغط على غسل أموال "حزب الله" (مشروع كاساندرا). وقد زاد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي وفرض العقوبات من الضغوط على الجمهورية الإسلامية، لكنه عزز من الاتفاق بين اليسار الأميركي والغطرسة الإيرانية.
لهذا السبب، یلقی فریق ظریف وروحاني، عندما يتواجدون في نيويورك، الكثير من الترحیب من الیساریین ووسائل الإعلام المتحالفة معهم، دون حتى أن يطرحوا أي سؤال صعب عليهم. وإذا كان الإسلاميون في الماضي يتحركون جنبًا إلى جنب مع اليسار بسبب ميول معادية للإمبريالية، فالاثنان الیوم متحالفان تمامًا، وقد نجح ظريف في رفع هذا التحالف للمستوى الدبلوماسي، إلى الحد الذي يكرر فيه جون كيري نفس کلمات ظریف. ثم تتبنی معظم وسائل الإعلام الغربية التي تتحالف مع اليسار، مواقف النظام الإيراني بالإجماع.
في هذا الاتفاق الذي لم يكشف عنه، هناك نوع من تقسيم العمل بين الحكومة الإيرانية والحرس الثوري؛ السياسة الخارجية في المنطقة بید الحرس الثوري، والسياسة الخارجية حیال الولايات المتحدة وأوروبا بید الحكومة.
في عهد أحمدي نجاد، لم يكن هذا التمييز الواضح موجودًا، لأن أحمدي نجاد لم يكن من السهل أن يتصالح مع مثل هذا الاتفاق مع الحرس الثوري، حيث كان هو الذي أقال متقي أثناء سفره، لأنه کان یقوم بتنسيق خططه مع الحرس الثوري والمرشد الأعلى.
کبح جماح التوسع في أفريقيا وأميركا الجنوبية
وسعت حكومة أحمدي نجاد، من خلال عائداتها النفطية الفلكية، نفوذ الجمهورية الإسلامية إلى أفريقيا وأميركا الجنوبية. ولا تزال هناك بقايا من شبكة أحمدي نجاد تعمل مع فيلق القدس، و"حزب الله" في لبنان. لكن التأثير الذي سعت إليه حكومة أحمدي نجاد (التأثير على الحكومات ووضعها في دائرة نفوذ الجمهورية الإسلامية، مثل لبنان وسوريا والعراق) لم يكن مستدامًا؛ فقد سعى خامنئي وأحمدي نجاد في أفريقيا وأميركا اللاتينية إلى خلق مجالات جديدة تزعج الغرب، وبالتالي قاما بإرسال الأسلحة إلى بعض الجماعات وتقديم الأموال لبعض المجموعات. لكن ظريف وروحاني یعتقدان أنه يتعين عليهما إنفاق هذه الموارد في الدول الغربية ودول المنطقة.
ووفقًا لهذه السياسة، حتى بعد رفع العقوبات في عام 2015. يبدو أن حكومة روحاني لم تعد إلى سياسة أحمدي نجاد في هاتین القارتين.
إن مقارنة عدد رحلات أحمدي نجاد وروحاني إلى أفريقيا وأميركا الجنوبية توضح، إلی حد ما، هذا التغيير في السياسة.
ومع ذلك، على الرغم من العقوبات النفطية، لم يتوقف نظام الجمهورية الإسلامية عن إرسال الدولارات والمعدات العسكرية إلى سوريا ولبنان والعراق واليمن.
ولو وضعنا هذه الخطط الثلاث إلى جانب بعضها البعض، فسنشهد فيها جميعا قيودًا على خطط الإدارة العالمية والاستكبار الإيراني وسوف نشهد أيضا نوعا من النهج العملاني في إطار نظام الجمهورية الإسلامية، وهي الأمور التي يمكن القيام بها من قبل الحرس الثوري وبيت المرشد الإيراني، وبالطبع فهي ليست من أجل تطبيع النظام بل تهدف إلى استمراره. وعلى هذا الأساس، يتم الحفاظ على وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في الحكومة حتى بعد استقالته، وذلك لأنه ينفذ البرامج التي لا يريد خامنئي والحرس الثوري أن تُترك جانبًا، بما فيها اللوبي والتعاون مع اليسار الغربي، على الرغم من أنه في التنافس السياسي الداخلي يتم استخدامها ضد حكومة روحاني.
والأمر الوحيد الذي فعله ظريف وفريقه هو أنهم بينوا لخامنئي ما هو الشيء الممكن وما هو غير الممكن أو الذي يصعب الحصول عليه، وكيف يمكن تنفيذ الأمور الممكنة؟
على سبيل المثال، تقليل الحضور في أفريقيا وأميركا اللاتينية، ليس من أجل عدم جدواه للمصالح الإيرانية والأمن القومي، بل من أجل حضور المراقبين الأقوياء وشح الفرص أمام إيران في هذه المناطق؛ فمثلا عندما تكون تركيا في ليبيا وتريد أن تكون في هذا البلد، فمحاولة إيران الحضور العسكري في ليبيا تبدو عديمة الفائدة؛ فالكثير من البلدان الأفريقية قطعت علاقاتها مع طهران بسبب كشفها عن الطموح الإيراني في هذا البلاد.
وإذا ما أردنا مقارنة السياسة الخارجية في حكومة روحاني مع حكومة محمود أحمدي نجاد، فليس الأمر أن أحدهما يؤمن بإثارة التوترات والآخر يؤمن بخفض التوترات، فكلاهما ينتهج سياسة واحدة في الشرق الأوسط (برعاية الحرس الثوري) وفيما يتعلق بأوروبا وأميركا فإن كليهما سعيا إلى الابتزاز وبيع النفط والحصول على تكنولوجيا أسلحة الدمار الشامل.
أما في المجالات الأخرى، فقد فرضت حكومة روحاني على النهج التوسعي لديها قيودًا بدرجة أكبر، وبدلاً من هذا الأمر فقد وضعت التأثير على سياسات الحكومات الغربية ضمن أولوياتها. ولم يتضح أبدًا مدى إنفاق إيران على لوبياتها في الدول الغربية، ولكن في العمل، يعمل الآلاف من الأشخاص على مختلف المستويات والإمكانيات لصالح النظام الإيراني. غير أنه لا أحد في جميع أنحاء العالم يعمل لصالح إيران دون حصوله على مكافأة أو من أجل رضا الله.