البرلمان الإيراني على رأس الأمور.. لكن ليس كلها
الاحتجاجات العامة الأخيرة في إيران كشفت، أكثر من أي وقت مضى، ظاهر وباطن التيارات السياسية في إيران، ودور الدين ومواقف العلماء والمفكرين في الداخل والخارج، وبشكل عام توزع واصطفاف ومواقف معارضي ومنتقدي الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
في هذا السياق، يجب أن لا نغفل منهجية عمل البرلمان، بوصفه أحد أهم أركان نظام الجمهورية، والديمقراطية، وهو المجلس الوطني للنواب، الذي اكتسب كغيره من المؤسسات في إيران صفة "الإسلامي" ليصبح "مجلس الشورى الإسلامي".
بطبيعة الحال، حسب القوانين المدونة، فإن وظيفة نواب هذا المجلس الذي انتخبه الشعب، لا تختلف عن وظيفة نظرائهم في بقية المجالس الوطنية بالدول الأخرى. وأهم وظائف مجلس النواب حماية مصالح الشعب وعرض شكاواهم واعتراضاتهم في كل قضايا البلاد.
شهدت احتجاجات نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 أسوأ وأعنف ردة فعل حكومية لدولة ضد شعبها، من حيث عدد القتلی والإصابات والاعتقالات ومقدار العنف الذي تمت ممارسته في مواجهة الاحتجاجات، فإن مجلس النواب وردة فعله تجاه الأحداث يمكن النظر إليها من زاويتين: بالنظر إلى اقتراب الانتخابات النيابية المقبلة (شباط 2020)، فإن الاحتجاجات يمكن أن تكون فرصة مناسبة ليدعم النواب خلالها، الشعب ويكسبوا ثقته، بالطبع هذا الأمر ينطبق على هؤلاء المهتمين بهواجس الشعب ويرغبون في تمثيله واقعيًا على مقاعد البرلمان. لكن العقبة أمام النواب في إيران مختلفة، فشرط حصولهم على تأييد صلاحية مجلس صيانة الدستور سيحول بينهم وبين تأييد الجماهير، فكيف يكسبون رضا الشعب ورضا مجلس صيانة الدستور التابع للمرشد الإيراني؟
بعد يوم واحد فقط من ارتفاع سعر البنزين إلى ثلاثة أضعاف، والاحتجاجات الشعبية التي اتخذت رفع سعر البنزین مجرد ذريعة للتعبير عن الغضب من نظام الجمهورية الإسلامية وكراهيته، برّأ المرشد نفسه من هذه القضیة، وقال إنه لیس خبیرًا في أسعار البنزین.
خامنئي الذي كان يضع نفسه سابقًا في مقام ملكوتي لا يرى فيه ضرورة للرد على الرأي العام، قال هذه المرة: "سعر البنزين ليس من اختصاصي، وأنا فقط احترمت رأي رؤساء السلطات الثلاث".
في هذه الأثناء كان نواب البرلمان يجمعون التوقيعات من زملائهم لتقديم طلب إحاطة عن سبب رفع سعر البنزين دون معرفة النواب. لكنهم تراجعوا على الفور بعد تصريح المرشد لأن قائدهم دعم هذا القرار وطلب من الجميع أن يحترموه.
ووفقًا للمادة 76 من الدستور، فإن "مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) يحق له البحث والتفتيش في كل أمور البلاد". لكن علي لاريجاني أعلن في مؤتمر صحافي، يوم الأحد أول ديسمبر (كانون الأول)، المصادف ليوم المجلس في التقويم الإيراني، أن "البرلمان على رأس الأمور لكن ليس كل الأمور.. من يوجه البلاد هو المرشد، والبرلمان يتخذ قراراته في نفس الاتجاه".
خلال هذه الأيام التي انتظر فيها الشعب من البرلمان تحمل المسؤولية والتحرك، يمكن أن نجد في تصريح لاريجاني الأخير أقوى اعتراف على عدم أهلية وصلاحية هذه الهيكلية في نظام شبه ديمقراطي، وغیر متجانس.
مجلس النواب منتخب من قبل الشعب، لكن في الجمهورية الإسلامية، بالطبع، لدیه قائد وأرباب عمل غیر الشعب، وهواجس لا تمت للمواطنین وهمومهم بصلة. كان لدى البرلمان هذه المرة فرصة ليدافع عن الشعب وكرامته ومصالحه، ليرمم صورته المشوهة، لكنه أحرق هذه الفرصة إيضًا بانصياعه للقيادة. هذه الفرصة كانت تشبه الفرصة التي استثمرها النائب السويدي في البرلمان الأوروبي وأدان من على ذاك المنبر العنف والجريمة الممنهجة التي ترتكبها الجمهورية الإسلامية، داعيًا الرأي العام العالمي والاتحاد الأوروبي لرؤية الجمهورية الإسلامية كحكومة إرهابية تمارس العنف ضد مواطنيها.
لقد وقف نواب البرلمان الإیراني، في الحقيقة، على مفترق طرق صعب، بين الفعل ورد الفعل، فمن جهة تعرضوا لانتقاد شديد لعدم اتخاذهم أي خطوة مؤثرة في إطار حماية الشعب في الاحتجاجات الأخيرة، حتى إنهم فقدوا مکانتهم التي کانت أشبه ما تکون بالفزاعة. ومن جهة أخرى يحتاجون لرضا المرشد ومجلس صيانة الدستور، فكانوا هذه المرة عكس ما أراده الشعب الذي يمثلونه ظاهريًا. حتى تمثيلية البرلمان بزعامة مجتبى ذو النور زعيم الأصوليين في الاستجواب والمساءلة، لم تهدئ غضب الرأي العام من لامبالاة النواب أمام عنف النظام.
الأکثر وضوحًا في هذه العملیة، هو الضعف والتناقض العلني لهيكلية النظام الإيراني، والفشل الكامل للمؤسسات الديمقراطية اسمًا، والتي تشكل أركان الجمهورية الإسلامية المبنية على قانون إسلامي، النظام الذي يدعي منذ أربعين سنة أمام الحكومات والدول الديمقراطية أنه نظام جمهوري ديمقراطي لديه مؤسسات منتخبة، مثل البرلمان ورئاسة الجمهورية، على الرغم من وجود حاكم أو ولي فقيه مطلق. لكن اليوم عندما يواجه نواب الشعب أزمة غلاء البنزين والاحتجاجات الشعبية، ومن ثم القتل الجماعي والاعتقالات، لا يمكنهم الدفاع عن الشعب، لأنهم يعلمون أنهم أتوا في إطار نظام لا يأخذون فيه سلطتهم من الشعب بل من نظام رقابي تابع للمرشد، والمرشد هو الذي يحدد توجهات النواب ويؤكد عليهم الالتزام بهذه التوجهات، ويحصلون علی الأصوات من خلال المحسوبيات والمال والعلاقات القومية والقبلية، هؤلاء النواب نواب مصالح النظام والمرشد، وليسوا نواب الشعب.
شبه الديمقراطية الإسلامية الإيرانية، المستمرة منذ عقود تحت عناوين الديمقراطية والشعبية، والتلاعب بالكلمات، وخداع الرأي العام، أصبح برلمانها اليوم، في ظل الظروف الحرجة والهشة للحكومة، أحد أكثر الأجهزة انعدامًا للکفاءة في لعبة الدیمقراطیة. وعلى خلاف مسؤولي الجمهورية الإسلامية لم يسمع "صوت ثورة" الشعب الإيراني ولم ير عمق الاحتجاج.