لماذا تسعى طهران لاستفزاز واشنطن عسکریًا؟
في الأشهر القليلة الماضية، اتخذت هجمات جمهورية إيران الإسلامية على أهداف الولايات المتحدة ومصالح حلفائها في الشرق الأوسط، وتیرةً تصاعدیة. هذه الهجمات، بطبيعة الحال، تقوم بها القوات الموالية، وخاصة الحوثيين اليمنيين والميليشيات الشيعية العراقية.
اللافت أن الهجمات الأخيرة لم تقم بها قوات موالية للجمهورية الإسلامية، ولكن، وفقًا لمجموعة تقصي الحقائق الدولية، التي تکونت للتحقيق في الهجوم على السفن في الفجيرة، وأشرطة الفيديو الصادرة عن المخابرات الأميركية، فإن القوات الإيرانية هي التي قامت بهذه الهجمات مباشرة.
وعلى الرغم من أن جمهورية إيران الإسلامية نفت رسميًا الاتهامات بمهاجمة ناقلات النفط والسفن الراسیة في ميناء الفجيرة ومهاجمة ناقلتي النفط في بحر عمان، فقد كانت هذه الهجمات في إطار تحقیق التهديدات التي أطلقتها السلطات الإيرانية بعد بدء موجة جديدة من العقوبات الأميركية، لا سیما وأن المرشد الأعلى لجمهورية إيران الإسلامية، ورئيس الجمهوریة، ووزير الخارجية، والمسؤولین العسكريین، هددوا مرارًا وتکرارًا، بإحباط بيع النفط عبر مضيق هرمز إذا واجهت مبيعات النفط الإيرانية مشكلة. لذلك، فإن الحقائق الموضوعیة تتفق تمامًا مع تهديدات السلطات الإيرانية الرسمية.
ومن ناحية أخرى، بعد انهيار نظام صدام حسين في العراق، ونهاية استراتيجية "الاحتواء المزدوج" للولايات المتحدة ضد إيران والعراق، حددت جمهورية إيران الإسلامية منطقة الشرق الأوسط، وخاصة المشرق العربي، كمجال حيوي لعملها الدولي، وأنشأت ميليشيات طائفية في بلدان المنطقة، خاصة العراق وأفغانستان، وذلك بعد هزيمة الربيع العربي في سوريا واليمن، وذلك من أجل مواجهة سياسة الولايات المتحدة في الإقليم، وضرب المصالح الأميركية بشكل غير مباشر، بحيث لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتهم إيران مباشرة بتهديد مصالحها في الشرق الأوسط.
لهذا السبب، كان أحد أكثر الانتقادات التي وجهها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلی الاتفاق النووي، هو أن الاتفاق لم يمنع إيران من مواصلة سياستها الإقليمية، بل إن استعادة طهران لـ150 مليار دولار من رأسمالها المصادر أدی إلى أن یقوم هذا البلد باستثمارات واسعة النطاق في مجال برنامجه الصاروخي وتسلیح الجماعات الطائفية بأسلحة نوعية مثل الطائرات المسیرة والصواريخ متوسطة المدى، لتهدید الممرات المائية الدولية وتهديد الأمن القومي الأميركي والسلام والاستقرار العالميين.
وقد كان انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، وعودة العقوبات الأميركية الأكثر صرامة ضد إيران، نكسة كبيرة لاستراتيجية إيران الإقليمية، التي کانت تبدو ناجحةً، مما تسبب في تغییر اتجاه المشاكل والأزمات التي سعت إيران إلى خلقها في المنطقة، إلی الداخل الإیراني، وتفعيل الفجوات والأزمات الکامنة في المجتمع الإيراني في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إن خفض صادرات النفط الإيراني، كمصدر رئيسي للدخل في البلاد، من 2.5 مليون برميل يوميًا إلى أقل من 300 ألف برميل، وتوقع حدوث نمو سلبي في الاقتصاد قدره 6 في المائة، العام المقبل، سیجعل جمهورية إيران الإسلامية بلا شك، تواجه تحديات داخلية وتهديدات كبيرة.
ومع ذلك، فإن الاحتجاجات على مستوى البلاد في يناير (کانون الثاني) 2018، وانتشار الإضرابات والاحتجاجات النقابیة، وتفعيل الفجوات العرقية والطبقية، ومعارضة المظاهر الآيديولوجية للخطاب الرسمي مثل الحجاب، وتحدي مبدأ ولاية الفقيه من قبل الجماعات والطوائف الشیعية؛ أظهرت مدى الاضطراب الذي يعيشه المجتمع الإيراني الحالي، وأن هناك احتمالية لأن یخرج عن السيطرة في أي لحظة، في حال التأثر بأي عامل داخلي أو خارجي.
وبهذه الطريقة، تمکنت الولايات المتحدة من أن تجعل استراتيجية إيران الإقليمية، (من خلال خطوتي الانسحاب من الاتفاق النووي وإعادة العقوبات الموجهة والقاسیة)، تنقلب ضدها، وتُحوّل وجود الميليشيات الموالية لها إلی تهدید ضد کیان النظام من جانب القوى الاجتماعیة والسیاسیة في الداخل.
من هذا المنظور، لا يمكن لاستراتيجية تهديد المصالح الأميركية من خلال القوى العاملة بالوكالة في هذه المرحلة أن تلبي بالكامل المصالح الإقليمية لجمهورية إيران الإسلامية والاستقرار الداخلي للبلاد.
وفي ظل هذه الظروف الجديدة، كانت مراجعة إیران لاستراتيجيتها أمرًا ضروريًا، لذا فإن الهجوم المباشر من قبل القوات العسكرية لجمهورية إيران الإسلامية على طائرة أميركية مسیرة في مضيق هرمز يدل على استعداد إيران لمواجهة أميركا بشکل مباشر وخاضع لسیطرتها.. وهذا التغيير في الاستراتيجية يسعى إلى تحقيق هدفين رئيسيين:
1) المواجهة المباشرة والمحدودة مع الولايات المتحدة وهي أزمة خارجية تريح النظام من الضغط الداخلي، إلی حد کبیر، وتبرر عملیات القمع والإرهاب الأمنیة، وفي الوقت نفسه، تؤجج المشاعر الوطنية ضد العدوان الأجنبي لدی الطبقات المختلفة من المجتمع.
2) قد تُجبر هذه المواجهات، الولايات المتحدة على الرد عسكريًا. هذا الرد، اعتمادًا على شدته، يمكن أن يخلق تحدیًا لترامب، على عتبة انتخابات الولايات المتحدة لعام 2020، وأن يوفر فرصة للمنافسين الديمقراطيين للعودة إلى الاتفاق النووي، وتقليل فرص نجاح دونالد ترامب إلی أقل قدر ممکن.
إن النظر إلی الوضع الداخلي في إيران والوعي بتأثير العقوبات، وأیضًا المناخ الانتخابي للمجتمع الأميركي، كل ذلك جعل ترامب یأمر بإيقاف الهجوم، قبل 10 دقائق فقط من رد الفعل العسكري على تحطم طائرة أميركية مسیرة. وبدلاً من ذلك، وقّع علی تکثیف العقوبات الموجهة والفعالة ضد الجمهورية الإسلامية والمسؤولين الإيرانيين.