رقم قیاسي جدید للسیولة في إيران
مع تجاوز السيولة الإيرانية الحدود النفسیة البالغة 2000 تریلیون تومان، أصبح هذا المتغير الاقتصادي، مرة أخرى، أحد الموضوعات الساخنة في المناقشات الاقتصادية لوسائل الإعلام في طهران..
لقد أصبح تشبیه نمو السيولة بكارثة تسونامي أو الفيضان شائعًا، مرة أخرى؛ الكلمات التي دخلت الأدبيات الاقتصادية الإيرانية قبل عدة سنوات، جاءت هذه المرة لوصف الوضع الحرج في البلاد، حیث أصبح ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض مستويات معيشة المواطنين من أکثر العلامات وضوحًا على هذا الوضع.
ما هي السيولة؟ ولماذا يعتبر النمو الهائل لها في العقود الأربعة الماضية أحد الأسباب الرئيسية للفشل الاقتصادي للجمهورية الإسلامية؟
السیولة والتضخم
السيولة، بعبارات بسيطة، تشمل النقود وشبه النقود. النقود، من ناحية، تعني الأوراق النقدية والعملات المعدنية، ومن ناحية أخرى الودائع الحالية للمواطنين في البنوك والمؤسسات النقدية غير المصرفية.. أما شبه النقود وهي العنصر الثاني للسیولة، فتشمل الحسابات المصرفية طویلة الأجل أو غیر الجاریة. وبالمجمل يتعلق الأمر بالنقد المتاح للمواطنین والودائع المصرفية التي يسهل تحويلها إلى نقد. ببساطة السيولة هي القوة الشرائية للمواطنين، كما أنها تخلق طلبًا على عشرات الآلاف من السلع والخدمات في المجتمع.
يجب أن يتناسب حجم السيولة (الاقتصاد الاسمي) مع حجم السلع والخدمات المتاحة في المجتمع (الاقتصاد الحقيقي) وينمو جنبًا إلى جنب مع الاقتصاد الحقيقي؛ فإذا ارتفعت السيولة، دون أن ترتفع، بنفس المستوی، الکمیة الحقیقیة المعادلة لها من السلع والخدمات، فسوف ترتفع الأسعار ويحدث التضخم.
وقد أكد عدد من المفكرين على العلاقة بين حجم النقود المتداولة والمستوى العام للأسعار منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر. وبعد اكتشاف القارة الأميركية، تم نقل كميات كبيرة من الذهب إلى كثير من الدول الأوروبية، ولا سيما إسبانيا؛ فأدى التدفق الضخم للذهب، والذي کان یلعب في ذلك الوقت دورًا رئيسيًا في التجارة، إلى خلق توترات تضخمية في إسبانيا. عندما تتسبب الزيادة غير الطبيعية في حجم الذهب، والذي يمتلك قیمة ذاتیة، إلی تضخم، يمكن للمرء أن يتكهن بما يمكن أن تكون عليه عواقب الزيادة الكبيرة في النقود الورقية.
في أوروبا في القرن التاسع عشر، أصبحت نظرية كمية النقود أكثر صلابة من قبل الاقتصاديين البارزين مثل ديفيد ريكاردو. لكن الشخص الذي لعب الدور الرائد في تعزيز النظرية في النصف الثاني من القرن العشرين كان الأميركي ميلتون فريدمان. في رأيه، "التضخم هو دائمًا وفي كل مكان ظاهرة نقدية، وأصلها ليس أكثر من الزيادة السريعة في حجم الأموال بالنسبة لحجم الإنتاج".
تشير الإحصاءات الصادرة عن البنك المركزي لجمهورية إيران الإسلامية مؤخرًا إلى أن الفيضان الجارف للسيولة لا یزال مستمرًا، ویؤثر سلبًا على توازن الاقتصاد الكلي في إيران.
ووفقًا لهذا التقرير، بلغ حجم السيولة في شهر يونيو (حزيران) من العام الماضي، 1980 تریلیون تومان.
وبالنظر إلى أن نمو السيولة في الأشهر الستة المنتهية في يونيو (حزيران) 2019، وفقًا لحسابات البنك المركزي، كان 25 في المائة، یمکن القول إنه في الوقت الحاضر تجاوز حجم هذا المتغير النفسي 2000 تريليون تومان. ويمكن التأكيد على ثلاث نقاط مهمة في مجال حجم السيولة الحالي ومعدل نموه، بالاستناد إلی إحصاءات البنك المرکزي:
1) زاد حجم السيولة في إيران من 250 مليار تومان إلى أكثر من 2000 تریلیون تومان في الأربعین سنة الماضية، وقد بلغ، في واقع الأمر، 8000 ضعف. وبدلاً من ذلك، في نفس الفترة، تضاعف حجم الإنتاج الإيراني (الاقتصاد الحقيقي) خمس مرات فقط، حتى بالأسعار الحالية.
2) بسبب هذه الفجوة الهائلة بين ارتفاع السيولة من جهة والزيادة في احتياطي السلع والخدمات من جهة أخرى، انخفضت قیمة العملة الوطنية إلى أقل مستوی لها منذ أربعين عامًا، وارتفعت أسعار السلع والخدمات بشكل كبير.
3) وفقًا لبيانات البنك المركزي، كان معدل نمو السيولة في الـ12 شهرًا المنتهیة في يونيو (حزيران) من هذا العام 25 في المائة، في بلد كان فيه نمو الناتج المحلي الإجمالي سلبیًا. بمعنى آخر، فإن حجم النقود، وبالتالي الطلب، يزداد، في حين أن حجم السلع والخدمات المتاحة في البلد آخذ في التناقص.
جذور قفزة السيولة
إن نمو السيولة والتناقض الكبير بين حجم الأموال المتداولة والاقتصاد الحقيقي ينبعان من مجموعة متنوعة من العوامل، أهمها عاملان هما: عجز الموازنة، والنظام المصرفي.
يعد العجز السنوي في الميزانية، وكيفية تمويله، من السمات المميزة للاقتصاد الإيراني المتعثر، والذي فشل على مدار الأعوام الأربعين الماضية في تخليص نفسه من آفتي القطاع العام، والاعتماد على النفط، كما فشل في التحول إلی اقتصاد القرن الحادي والعشرين الحديث.
القطاع العام الإيراني بئر یبتلع نحو 70 في المائة من إجمالي ميزانية البلاد. كما أن البيروقراطية، والزيادة الكبيرة في عدد الموظفين المدنيين، وإفلاس صنادیق المعاشات، ودفع معظم المعاشات من خزينة الدولة، وتخصيص مبالغ فلكية للإعانات السرية والمعلنة، وعدم القدرة على إنشاء أنظمة ضريبية فعالة، والاعتماد على عائدات النفط، والحاجة إلى تحمل عواقب هذا الاعتماد في ظروف رکود سوق النفط والعقوبات؛ كلها عوامل ساهمت في اختلال الموازنة وخلق عجز فلكي.
ومن المتوقع أن يصل عجز الموازنة إلى 150 تريليون تومان هذا العام، على الرغم من أن منظمة الموازنة والتخطيط تدعي أنها ستمنع عجز الموازنة من خلال تعديل الميزانية وتقليص سقفها.
تقوم الحكومة باقتراض أموال من البنك المركزي لتغطية عجز ميزانيتها، مما يعني أن البنك المركزي يطبع المزيد من الأوراق النقدية. بطبيعة الحال، تقول الحكومة إن الاقتراض من البنك المركزي قد توقف، ونادرًا ما یتم. لكن الحكومة في الواقع تقترض من الموارد البنكیة لتلبية احتياجاتها المالية، فتزيد دیونها للبنوك.
وفي التحليل النهائي، يقع سداد هذه الديون على عاتق البنك المركزي، مما يؤدي بطبيعة الحال إلى طباعة الأوراق النقدية وزيادة السيولة.
تعمل البنوك أيضًا على تعزيز السيولة بعدة طرق، أحدها الأكثر شهرة هو دفع أسعار فائدة غير تقليدية لجذب المودعين.
يعد غياب بنك مركزي موثوق به ومستقل أحد أهم مصادر نمو التدفق النقدي في إيران. في الأقطاب الصناعية في العالم، يتمتع استقلال البنك المركزي بنفس مصداقية استقلال القضاء، ومبدأ الفصل بين السلطات؛ فالبنوك المركزية في الولايات المتحدة واليابان ومنطقة النقد الأوروبية والمملكة المتحدة- كأمناء أقوياء على السياسة النقدية- لا تنحني أمام السلطة السياسية. بالطبع، في عدد من الدول الصناعية القوية، ازداد ضغط الجهاز التنفيذي على البنك المركزي، لكن كبار المسؤولين في هذه البنوك لم يستسلموا، حتی الآن، لهذه الضغوط.
وفي السنوات الخمس الماضية، حدد عدد متزايد من البلدان النامية استقلال البنك المركزي باعتباره الطريقة الأكثر فعالية لمعالجة التضخم؛ فمع إنشاء بنك مركزي مستقل وقوي، تمکنت دول نامية عديدة في أميركا اللاتينية وآسيا من الوصول إلى معدل تضخم أقل من 3 في المائة، على غرار معدل التضخم في أقوى الدول الصناعية في العالم.
في البلدان ذات المؤسسات النقدية المستقلة، يتعين على الحكومة اللجوء إلى الأسواق المالية لتمويل العجز، بدلاً من الاقتراض من البنك المركزي. كما يمكن للبنك المركزي المستقل أن يقاوم المطالب غير المشروعة للسلطة السياسية، وهدفه الأساسي هو استقرار الأسعار واتخاذ قرار بشأن إدارة ظواهر العملة الوطنية المؤثرة بما في ذلك أسعار الفائدة، فقط على أساس المعايير العلمية، دون خوف من السياسيين.
إذا لم يتمتع البنك المركزي بالسلطة اللازمة، فسيخضع حتمًا لمطالب الحكومة المكلفة، ويُزيد السيولة في المجتمع دون النظر إلى الحقائق الاقتصادية، ويقوض استقرار الأسعار، كما يقوض الثقة. هذا هو الوضع الذي يقع فيه البنك المركزي لجمهورية إيران الإسلامية، وبسبب الضعف، يجب أن ينحني أمام ضغوط مختلف أقطاب السلطة.